فصل: تفسير الآيات (33- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 35):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}
ولما كان كأنه قيل: ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق؟ قيل: ثبت، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر، فاشترط لنفسه حتى رضي، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً، وحلماً وعلماً، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة، ولذلك كله {قال رب} أي أيها المحسن إليّ {إني} أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة، فذكر ذلك ليعلم وجه عدم اعتباره {قتلت منهم} أي آل فرعون {نفساً} وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها {فأخاف} إن باديتهم، بمثل ذلك {أن يقتلون} لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج.
ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير: فأرسل معي أخي هارون- إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: {وأخي هارون} والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثاني، فكأن التقدير: إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود، ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وإن لساني فيه عقدة، وأخي- إلى آخره؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال: {هو أفصح مني لساناً} أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون {فأرسله} أي بسبب ذلك {معي ردءاً} أي معيناً، من ردأت فلاناً بكذا، أي جعلته له قوة وعاضداً، وردأت الحائط- إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة.
ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله: {يصدقني} أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون- مع تصديقه لي بنفسه- سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً. ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له: صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف: {إني أخاف أن يكذبون}.
ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن من أن يكذبوه، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر، أشار إلى ذلك بالتأكيد، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل، وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بإنذار قومه: «إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة» وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم، ليمضوا في الأمر على بصيرة، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة.
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً: {قال سنشد} وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال: {عضدك} أي أمرك {بأخيك} أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك {ونجعل لكما سلطاناً} أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا، ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} أي من قومكما وغيرهم {الغالبون} أي لا غيرهم، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده، بل من حزب الله وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب.
شرح ما مضى من التوراة، قال بعدما تقدم: وكان من بعد أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم، فصلوا فسمع الله صلاتهم، وعرف تعبدهم، وسمع ضجتهم، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبصر الله بني إسرائيل، وعرف ذلهم، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج، تشتعل فيه النار، ولم يكن العوسج يحترق، فقال موسى: لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له: يا موسى يا موسى! فقال: هأنذا! قال: لا تدن إلى ههنا، اطرح خفيك عن قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر، وفي نسخة: مقدس، وقال الله: أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب، وقال الرب: إني قد رأيت ذل شعبي بمصر، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم، لأني عارف براءتهم، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين، وأن أصعدهم من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة، تغل السمن والعسل: أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ، ورأيت ضر المصريين لهم، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون.
وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر، فقال موسى للّه: من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر، فقال الله: أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك: إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل، فقال موسى: ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم: الرب إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي: ما اسمه؟ ما الذي أقول؟ فقال الرب لموسى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل، وفي نسخة: لا يزول، وقال: هكذا قل لبني إسرائيل: أهيا شر أهيا أرسلني إليكم، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل: الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم: الرب إله آبائكم اعتلن لي، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم: قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين- ومن تقدم معهم- إلى الأرض التي تعل السمن والعسل، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقولوا له: الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون، ولا بيد واحدة شديدة، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة، وألبسوها بنيكم وبناتكم، وأخربوا أهل مصر، فأجاب موسى وقال: إنهم لا يصدقونني، ولا يقبلون قولي، لأنه يقولون: لم يتراءى لك الرب، فقال له الرب: ما هذه التي في يدك؟ فقال: هي عصاي، فقال: ألقها في الأرض، فألقاها في الأرض، فصارت ثعباناً، فهرب منه موسى، فقال له الرب: يا موسى! مد يدك، فخذ بذنبها، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا، فقال: لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، وقال الرب لموسى: اردد يدك في ردنك، وفي نسخة: في كمك، فأدخلها ثم أخرجها فإذ بيده بيضاء كالثلج، فقال له: اردد يدك في حضنك، وفي نسخة: في كمك، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى، فإن لم يؤمنوا بالآيتين، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض، وفي نسخة: النيل، فاصببه على الأرض، فإنه ينقلب ويصير دماً في اليبس، فقال موسى للرب: أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه، لأني ألثغ المنطق عسر اللسان، فقال له الرب: من الذي خلق المنطق للإنسان؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف؟ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به، فقال: موسى أطلب إليك يا رب! أرسل في هذه الرسالة غيري، فقال: هذا أخوك هارون اللاوي، قد علمت أنه ناطق لسن، وهو أيضاً سيلقاك، ويشتد فرحه بك، وأخبره بالأمر، ولقنه كلامي، وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك؛ فيكون لك مترجماً، وأنت تكون له إلهاً، وفي نسخة: أستاذاً ومدبراً، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له: إني راجع إلى إخوتي بمصر، وناظر هل هم أحياء بعد؟ فقال: ثيرو لموسى: انطلق راشداً سالماً، وقال الرب لموسى في مدين: انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً- إلى آخر ما مضى في الأعراف، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق، وهو الإله، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فإن كان المراد الذي ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه.

.تفسير الآيات (36- 39):

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)}
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله: {فلما جاءهم} أي فرعون وقومه.
ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال: {موسى بآياتنا} أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي في غاية الوضوح {قالوا} أي فرعون وجنوده {ما هذا} أي الذي أظهره من الآيات {إلا سحر مفترى} أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله {وما سمعنا بهذا} أي الذي تقوله من الرسالة عن الله {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولاسيما عند تقادمها على القواطع في قوله: {الأولين} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام وما بالعهد من قدم فقد قال لهم الذي آمن {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} [غافر: 34]- إلى قوله: {ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات} [غافر: 34].
ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما فبضدها تتبين الأشياء هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال: {وقال موسى} أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم: {ربي} أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء {أعلم بمن جاء} بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال {بمن جاء} {بالهدى} أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه {من عنده} تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه {ومن تكون له} لكونه منصوراً مؤيداً {عاقبة الدار} أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي يظفر ويفوز {الظالمون} أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون {ولتعلمن نبأه بعد حين} {وقال فرعون} جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة: {يا أيها الملأ} أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم {ما علمت لكم} وأعرق في النفي فقال: {من إله غيري} نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول: اصنع لي آجراً: {فأوقد لي} أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لابد منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله: {فاجعل لي} أي منه {صرحاً} أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري: وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج: كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي الذي يدعوا إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام: {وإني لأظنه} أي موسى {من الكاذبين} أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.
ولما قال هذا مريداً به- كما تقدم- إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى: {واستكبر} أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل {وجنوده} بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة، والتعبير بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبراً وإن كانت صورته كذلك، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة أيضاً ولذا لم يعطفه بالفاء، فقال: {وظنوا} أي فرعون وقومه ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب {لا يرجعون} أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك اجترؤوا على ما ارتكبوه من الفساد.